تقارير

قابس: انتفاضة شعبية من أجل الحق في الحياة

لم يعد لنا صبر على رؤية أبنائنا يختنقون مع كل تسرّب غازي، والسلط تتجاهل معاناتنا.

رملة القرقني-قابس
بعد رحلة طويلة من تونس العاصمة، حطّ فريق توميديا رحالها ليل الاثنين 23 أكتوبر في مدينة قابس. ومع اقترابنا من المدينة، تسللت إلى أنوفنا روائح خانقة، مزيج من الغازات والمواد الكيميائية، تسببت في سيلان الأنف و حرقة في الحلق.
توقفنا عند أحد الأكشاك لشراء قارورة ماء، وكان الحديث السائد بين الحاضرين لا يدور إلا حول موضوع واحد: الإضراب العام والمشاركة فيه.
منير، صاحب الكشك، رجل أسمر البشرة، في منتصف الثلاثينات من عمره، قال بنبرة حازمة رغم ابتسامته المتعبة:
يجب أن يشارك الجميع في الإضراب، لقد سئمنا المرض بسبب المجمع الكيميائي.
يرد عليه أحد الحرفاء قائلاً:
لم يعد لنا صبر على رؤية أبنائنا يختنقون مع كل تسرّب غازي، والسلط تتجاهل معاناتنا.
واصلنا طريقنا نحو وسط المدينة بحثاً عن نزل للمبيت. توقفنا أمام مقهى صغير لاقتناء قهوة، وكان صاحبه، شاب من أبناء المنطقة، يخبر زبائنه أنه سيغلق المقهى غداً قائلاً بثقة:
نحن مع الإضراب العام، وسنشارك فيه جميعاً.
في النزل، ومع علم موظف الاستقبال أننا صحفيون، بادرنا بالحديث قائلاً:
ساعدونا وانقلوا صوتنا. تعبنا من الوعود. نريد حلولاً جذرية لمشكلة المجمع الكيميائي.
صعدنا إلى الغرف، وبدأنا تجهيز معداتنا، شحن الهواتف وتقسيم المهام لتغطية الوقفات الاحتجاجية والإضراب العام في اليوم الموالي.
صباح غاضب
مع بزوغ شمس الثلاثاء 21 أكتوبر 2025، توجهنا إلى كورنيش قابس حيث نظمت وقفة احتجاجية تضامنية لأصحاب سيارات الأجرة الفردية ومدارس تعليم السياقة.
في الطريق، بدت المدينة كأنها متوقفة عن الحياة: كل المحلات مغلقة، حتى باعة البنزين المهرّب امتثلوا للإضراب.
على طول الكورنيش، طغى اللون الأصفر لسيارات التاكسيات، مصطفّة بجانب سيارات مدارس السياقة. كان الحاضرون يناقشون مطالبهم ويدينون تجاهل السلطات.
تحدث البعض عن الجلسة العامة في البرلمان التي عُقدت قبل يوم، بحضور وزيري التجهيز والصحة، متسائلين عن غياب وزير الصناعة، المسؤول المباشر عن الملف.
حمزة الباجي، رئيس تنسيقية سائقي التاكسي الفردي بقابس، قال لتوميديا:
السلطات تتعامل مع مطالبنا بلا مبالاة. مطلبنا بسيط: نريد فقط أن نتنفس هواءً نظيفاً. نريد رفع هذا التلوث الذي يقتل أبناءنا ببطء.

من جانبه، شدد علي لسود، نائب رئيس الغرفة الجهوية لمدارس تعليم السياقة، على ضرورة رفع أصوات الأهالي، قائلاً:
“الوضع البيئي في قابس كارثي. نرفض الحلول الترقيعية، ونطالب بإجراءات جذرية تبدأ بتفكيك الوحدات الصناعية الملوِّثة.”
الاتطلاقة كانت أمام مقر  الاتحاد الجهوي للشغل
من الكورنيش، من المحكمة من المنازل….انطلقت المسيرات نحو مقر الاتحاد الجهوي للشغل بقابس، الذي أعلن مكتبه التنفيذي الإضراب العام قبل أيام.
تجمّع المئات من المواطنين.ات، عمالاً وأساتذة ونشطاء من المجتمع المدني، بل وحتى مواطنين من ولايات أخرى قدموا لمساندة قابس. ومع مرور الوقت، تضاعف عدد المحتجين وارتفعت الهتافات المطالبة بتفكيك الوحدات الكيميائية الملوثة.
في تصريح لتوميديا، قال صلاح الدين بن حامد، الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بقابس:
الاتحاد جزء من هذه الجهة، وإضراب اليوم هو دفاع عن حق الأهالي في العيش الكريم داخل بيئة سليمة. نحن فخورون بهذه الهبة الشعبية.
صوت واحد… ضد التلوث
غير بعيد عن مقر الاتحاد، كانت المحكمة الابتدائية بقابس قد توشحت بالأبيض والأسود، حيث خرج المحامون تحت لواء هيئتهم الفرعية في مسيرة التقت مع المحتجين أمام الاتحاد.
امتزجت الأصوات والهتافات لتصبح صرخة واحدة تهز المدينة:
“نريد أن نتنفس”
الإضراب العام الحضوري للمحامين جاء استجابة للتحركات الاحتجاجية المستمرة، في ظل استمرار معاناة الأهالي من التلوث الناتج عن المجمع الكيميائي. هكذا بدأ عبد الرحمان الساحلي، نائب رئيس فرع الهيئة الجهوية للمحامين بڨابس تصريحه لتوميديا،مؤكدا أن القضية عادلة ومطلب وطني مشروع، يتطلب تفكيك الوحدات الملوثة وتطبيق القرار الحكومي.
مواطنون وناشطون قضوا الليل في الطرقات لدعم مطالب أهالي قابس، بعد أن ضاقت بهم السبل من التلوث وآثاره الكارثية على صحتهم وعلى الوضع البيئي بالولاية، حيث اختفت الواحات، نفقت الأسماك، وانحنى النخيل ليس تحت ثقل العراجين، بل لعجز التربة عن توفير مقومات الحياة والنمو، في مشهد يشبه وداع الطبيعة قبل سقوطها النهائي.
وقد شارك في الاحتجاجات أشخاص من ولايات بعيدة مثل سليانة، ليشكلوا فصلًا جديدًا من النضال التاريخي لأهالي قابس، مقدمين درسًا في وحدة الصف بعيدًا عن الخلافات الحزبية أو السلطة، وهو ما تجلّى في المسيرة الحاشدة ظهر الثلاثاء 21 أكتوبر 2025.
قابس تنتفض: “لا للتلوث”… صرخة من أجل الحياة
في مفترق عين السلام، قلب مدينة قابس النابض، تحوّلت الساعة الثانية بعد ظهر الثلاثاء 22 أكتوبر 2025 إلى موعد مع التاريخ. مئات بل آلاف المواطنين من مختلف الفئات والشرائح العمرية اجتمعوا في مشهد نادر، ليهتفوا بصوت واحد: “لا للتلوث نعم لتفكيك وحدات المجمع الكيميائي الملوثة “.
رجال ونساء، أطفال وشيوخ، معلمون وعمال، أساتذة وطلبة، وحتى ذوو الاحتياجات الخاصة — كلّهم توحدوا حول مطلب واحد، حماية قابس وأهلها من التلوث الصناعي.
فرّقتهم مشاغل الحياة اليومية فرقتهم السياسة ، لكن مصلحة مدينتهم جمعتهم. ما عجزت عنه الأحزاب والسلطة، أنجزه المواطنون بإرادتهم، فتحوّلوا إلى كتلة واحدة متماسكة، تعبّر عن وعي جماعي نابع من معاناة طويلة.
(فيديووهات عين السلام بداية المسيرة)
في تصريح خصّ به توميديا، أكّد الناشط بالمجتمع المدني صفوان قبيبيع أن التحرك الاحتجاجي جاء في إطار “سلمي ومسؤول”، مشيرًا إلى أنّ أهالي قابس مصرّون على الدفاع عن حقوقهم بأساليب حضارية ومنظمة.
وأوضح قبيبيع أن أبرز مطالب المحتجين تتمثل في تفكيك الوحدات الصناعية،ازالة المجمع الكيميائي،وإنهاء الأنشطة الكيميائية والنووية المضرّة بالمدينة.
كان لـلكشافة التونسية دور بارز في المسيرة، حيث ساهم أفرادها في تأطير وتنظيم الحراك وتأمينه. بفضلهم، سارت التظاهرة في أجواء سلمية مثالية، عكست روح المسؤولية والانضباط التي تحلّى بها المشاركون وهم يطالبون بحقّهم الدستوري في بيئة سليمة.
من “عين السلام” إلى “سوق جارة”… خطوات على درب الكرامة
انطلقت المسيرة  مع الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، من مفترق عين السلام متجهة نحو ساحة جامع سوق جارة، ومع كلّ خطوة كانت الحشود تتزايد، حتى غدت المسيرة أشبه بنهر بشري يمتدّ على ثلاثة كيلومترات.
لم يطالب المشاركون برفع الأجور، ولا بتخفيض الأسعار أو تهيئة الطرقات، ولا حتى بالتشغيل. مطلبهم الوحيد كان إزالة التلوث الصناعي وصون صحة أبنائهم من خطر يتهدد المدينة منذ عقود.
أمام الولاية ثم الكورنيش… المشهد المهيب
واصلت المسيرة طريقها نحو مقر الولاية، ثم إلى كورنيش قابس. ومع كلّ متر تتقدّمه الجموع، كان النداء يعلو: “الشعب يريد تفكيك الوحدات!”.
ورغم ارتفاع درجات الحرارة وضيق الأنفاس وسط الزحام، أصرّ المواطنون على المضي قدمًا في نضالهم السلمي حتى النهاية.
من على سطح أحد المقاهي، بدا المشهد مهيبًا:
آلاف المواطنين يملؤون المكان، في مشهد ذكّرنا بيوم 14 جانفي 2011 في شارع الحبيب بورقيبة، يوم رفع شعار “شغل، حرية، كرامة وطنية.
اليوم، يختلف الشعار، لكن الكرامة الوطنية تبقى الرابط المشترك بين الحدثين.
مع مغيب الشمس، غادر فريق توميديا مدينة قابس. لكن الصمت الذي خيّم على طريق العودة كان ثقيلًا، كأنّ الأرواح بقيت معلّقة هناك، بين وجوه المواطنين وصرخاتهم، لكن السؤال بقي قائما في أذهاننا، هل تتحقق كرامة قابس البيئية وسط التناقض بين تصريحات الحكومة ومواقف رئاسة الجمهورية؟ بين الخطاب وما يحدث على أرض الواقع، سيما بعد وجود إصابات جديدة بالاختناق في صفوف التلاميذ، صباح الخميس 23 أكتوبر 2025، أم تضيع بين المصالح الاقتصادية والخطابات الشعبوية؟ فقابس ليست وحدها في مواجهة التلوث الصناعي؛ ايضا قفصة وصفاقس والهوارية وحمام الأنف وغيرها من المناطق التونسية تعاني من نفس المعضلة. فهل تكون قابس الشرارة التي تطلق حراكًا وطنيًا لإنهاء التلوث الصناعي وحماية البيئة؟
 أكتوب

كاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى