
هل سمعتم عن مسرحيات تعرض بلا خشبة ولا ممثلين ؟؟ في منطقة داروفة – المعمورة بالوطن القبلي حيث تلتقي زرقة البحر بكنز سباخها المحمية وطنيا ودوليا ( بموجب اتفاقية رمسار ) لا تحتاج تذكرة لتشاهد عرضا يوميا فاخرا اسمه ” سُور داروفة العظيم” هي مسرحية من ” العبث البيروقراطي ” وأبطالها تقارير رسمية بيضاء وعمياء تنكر ما تراه العين ولجان طوعت القانون ليكون هدية ادارية ذهبية للمخالفين .

الفصل الأول: فتوى “التسييج المقدس”
في فيفري 2025، افتتحت المسرحية بطلب رسمي للاستفسار عن “إمكانية تسييج” قطعة أرض خاصة. وجاء الرد سريعا من البلدية والمندوبية الفلاحية بـ”فتوى” موحدة مقتضبة تُدرس في فنون التهرب الإداري: “يمنع التسييج بالصلب”.
جواب عبقري يعفي من اي مسؤولية ! لا معاينة لوضعية الارض ، لا إشارة للـملك العمومي البحري الذي يجري حاليا اعادة تحديده بمقتضى أوامر وزارية تقتضي إجراءات مشددة ، لا تنبيه بخصوص حرمة ارتفاقات لمسلك عمومي ، ولا أي همس عن خصوصية الأرض ذات الهشاشة البيئية والمشمولة باتفاقيات دولية … كانت مجرد جملة مطاطية ، أشبه بـ”إذن غير مباشر”، تركت الباب مشرعًا أمام التفسير الشخصي وربما العبث بالقانون الذي يفرض في وضعية هاته الارض ترخيصا مسبقا من وزير الفلاحة ( الفصل 40 من مجلة المياه ) وترخيصا من مصالح وزارة التجهيز ( قانون 73 لسنة 1995 المتعلق بالملك العمومي البحري )…
الفصل الثاني: التأويل الحر لطريقة التسييج
خلال مارس 2025، تحول التفسير الشخصي من أصحاب الارض لجواب الادارة إلى واقع ميداني صلب. على مساحة 7,000 م²، تم نصب أعمدة خرسانية مثبتة في الارض بالاسمنت وأسلاك شائكة – أيّ شيء إلا “الصلب” الغير معروف طبيعته تحديدًا ! رافق ذلك تسوية احترافية للكثبان الرملية وإزالة للغطاء النباتي الطبيعي. أعمال تبدو للبعض “بريئة” على الورق، لكنها على الأرض خرق صريح لتدخلها في منطقة محمية بيئية تتطلب ترخيصًا مسبقًا صارمًا. لكن من الواضح في داروفة، أن قواعد حماية البيئة مجرد “اقتراحات” قابلة للتعديل حسب الرغبة والتأويل ومشاعر الادارة.
الفصل الثالث: تضارب التقارير الكوميديا سوداء
مع ضجيج الصور لنشطاء البيئة على وسائل التواصل الاجتماعي، كان لا بد للسلطة أن تتحرك. شُكلت “لجنة الإنقاذ” على عجل وكانت المفاجأة… لا مفاجأة ! فقد خرجت اللجنة يوم ( 8 ماي 2025 ) بـتقرير أبيض يعلن بـ”فخر” عدم وجود اي مخالفة ! مبررًا بأن التسييج “ليس بالصلب” (أي أنه قانوني كونه بالخرسانات الاسمنتية والأسلاك الشائكة المثبتة )!
تقرير كان يفترض ان ينهي النزاع ، لكن مع تصعيد الملف للجهات المركزية وتواصل الضغط والنقاش حول حدود الارض والمعيار في تحديد الصلب بما ان القانون يعتبر كل ماهو ثابت ومغروس بالاسمنت في الارض منشأة صلبة ، جاء تقرير وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي بعد شهر تقريبا (10 جوان 2025) كرد حازم لإيقاف الضجيج مؤكدًا وجود مخالفات واضحة وطالب البلدية بـالإزالة الفورية. ومذكرا بقرارات الهدم السابقة فيما يخص أجوار الارض الذين شيدوا سابقا بناءات متداخلة مع الملك العمومي البحري كانت بدايتها هي الاخرى ب “تسييج ليس بالصلب ” …
تهانينا الان ، فلدينا تقريران رسميان يصفان نفس الموقع، أحدهما يرى مخالفات والثاني رأى وردًا وسماء صافية وعصافير
تزقزق .

الفصل الرابع : محاولة الخروج من الورطة
في 15 أوت 2025 عقدت البلدية جلسة اخرى تحت بند التشاور للتنفيذ وإزالة المخالفات ، ضمت لجنة بتشكيلة جديدة . مخرجات هاته الجلسة كانت مخجلة مثلت قمة الأداء الإبداعي في بيروقراطية التهرب من تنفيذ قرارات الهدم عبر التبرير والتأجيل لتاريخ غير مسمى أشبه بصك غفران أبدي ، تحولت جميعها الى “لا شيء يُذكر” لعدم الاستدلال على النقاط الحدودية … هنا يتجسد الإفيه المصري ببراعة وكأنك تسمعه بصوت عادل امام يقول : “اللجان الحنينة رزق”…
المُلفت في الموضوع ان محضر الجلسة نص صراحة ان اصحاب الارض قاموا ” طوعا ” بازالة المخالفة والمقصود بها “السياج ” رغم بقائه الى اليوم شامخًا في الميدان على طول الارتفاقات دون ان يتزعزع مليمترا واحدا . نعم ، في داروفة يمكن إزالة الأشياء دون تحريكها حتى ” سورها العظيم ” أيقونة العبث البيروقراطي بإمكانك ان تراه صامدا على ارض الواقع بينما لا يوجد له اثر في التقارير الرسمية . ميزة تجعله يتفوق على جدار برلين او سُور الصين العظيم لانه موجود ومعدوم في آن واحد. وهو يضاهي بذلك ضخامة هذه الجدران التاريخية لا على مستوى الحجم بل على مستوى الجدل الذي اثاره …

الفصل الخامس : الإمعان في المخالفة وإهانة القانون
في سبتمبر2025 لم يكتفِ أصحاب الأرض بالورطة الإدارية، بل قرروا خوض “فصل درامي جديد” تحت عنوان الإمعان في المخالفة ، آلات الحفر تعزز المكان لتدعم السياج بحفر خنادق على طوله من جهتي البحر والسبخة مع زراعة نباتات زينة دخيلة على البيئة الساحلية في محاولة “تجميلية” للتقارير التي تنفي وجود الشمس في وضح النهار …
وبينما يتم تكريس الامر الواقع هنا تعقد هناك على بعد أمتار من ارض المخالفات ، في قاعات مكيفة ندوة حضرها مسؤولون بربطات عنق أنيقة لمناقشة مشروع على الورق يعزز البيئة ويسعى لحماية الشريط الساحلي من التهديدات وسط شعارات حالمة …

المسرحية مستمرة من سيكتب الفصل الأخير :
علمتنا التجارب التاريخية ان فصول المسرحية مهما احتوت على مشاهد عبثية لا تنتهي أبدا بلا فصل اخير ، فصل يعدله قانون الرقابة بلمسة سعيدة ترضي ذوق الجمهور الذي سيصفق كثيرا لانتصار الحق العام ..
يبقى السؤال الأهم الذي يفرضه مبدأ العدالة والمساواة هل سيتم تعميم الحنان الاداري في المنطقة على بقية المخالفين أم ان هاته المشاعر الرقيقة محفوظة فقط لحالة “سور داروفة العظيم” ؟
أم زكريا