
قدم المنسق العام “لائتلاف صمود” حسام الحامي اليوم الخميس 29 ماي 2025, بنود ما أطلق عليه خلال البيان التأسيسي الصادر عن الائتلاف قبل يومين “العقد السّياسي التّونسي” للخروج من الوضع السياسي المتأزم و بلورة رؤية جديدة لنظام سياسي ديمقراطي وفق تصور “ائتلاف صمود” وقد حصلت توميديا على نسخة منه حصريا. وفي ما يلي نص البيان:
“العقد السّياسي التّونسي”
يعيش المشهد السّياسي في تونس اليوم حركيّة متسارعة الوتيرة، بعودة الحراك الاحتجاجي وتوسّع رقعته ليشمل قطاعات واسعة من النّسيج الاجتماعي تنادي بمطالب جمعت بين الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي والسّياسي، وتواتر عدد من المبادرات تقدّمت بها منظّمات من المجتمع المدني أحزاب السّياسية.
وقد بدأت النّقاشات التي وقع الإعلان عنها في الآونة الأخيرة بين أطراف مدنيّة وسياسيّة عهدناها مختلفة ومتخالفة، ولم نشهد لها تقارب أو لقاءات أو مشاورات. ولعلّ أهمّها ائتلاف صمود والحزب الدّستوري الحّر وحركة حقّ بالإضافة إلى عدد من الشّخصيّات العامّة والكفاءات الأكاديميّة ولا تزال هذه النّقاشات متواصلة مع عدد من الشّخصيات والمنظّمات والأحزاب الأخرى.
وقد خلّفت هذه اللّقاءات ردود فعل متعدّدة ومتباينة بين من صنّفها في باب الخيانة لمبادئ وقيم جزء من الأطراف المتحاورة، وبين من يظنّ أنّها مراحل أوليّة لإطلاق جبهات سياسيّة هجينة شبيهة بتلك التي حصلت بعد الثّورة، وبين من استبشر واعتبرها بادرة أمل ولبنة أولى لتوحيد المعارضة التونسيّة لاستعادة مكتسبات الثّورة مثل حريّة التّعبير وحريّة التنظّم والنّشاط السّياسي والتعدديّة…
وفي الواقع، ما نطرحه اليوم هو مختلف تماما عمّا ذهب إليه معظم المتابعين والفاعلين في الحقل العامّ. وقد يكون مردّه، سوء الفهم النّاتج عن عدم وضوح بعض التّصريحات التي صدرت في الفترة الأخيرة بالإضافة إلى أنّ ما تطرحه المبادرة الجديدة، غير مألوف. فالسّؤال المطروح هو، كيف لمنظّمات من المجتمع المدني ولأحزاب سياسيّة أن تلتقي وتتناقش وتجتمع دون أن يكون الهدف من وراء ذلك، تشكيل تحالفات وجبهات سياسيّة للوصول إلى السّلطة…؟
وقد أردت من خلال هذا النّص، أن أساهم بالقدر الذي أمكن، في توضيح ما تطرحه النّقاشات واللّقاءات الأخيرة حتّى يتسنّى للرّأي العامّ التّفاعل بنوع من الموضوعيّة والجديّة مع ما سأوصّفه بمبادرة “العقد السّياسي التّونسي” رغم أنّه لم يقع الاتّفاق بعد، على اختيار التّسمية ولا على القائمة النّهائيّة للمشاركين. وهو توصيف شخصيّ قد يساهم في تقريب المعنى من أحبّائنا المتابعين.
لقد عاشت تونس بعد ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي 2011 تغيرا جذريّا في نظام الحكم، ورغم أنّ عددا من المحلّلين والمتابعين يعتبرون أنّ التّغيير الذي حصل كان فقط واجهة للمحافظة على نفس المنظومة، إلا أن دستور البلاد وقوانينه تغيّرت عديد المرات ونفس الشّيء بالنّسبة للفاعلين السّياسيين. ولذا سوف أقتصر في تحليلي على الصّراع السّياسي ومحاوره. كما أنّ هذا النّص ليس المجال الأمثل للخوض في مثل هذا النّقاش على أهميّته.
سعت القوى التي وصلت إلى الحكم في كلّ مرّة، إلى تكريس نظام سياسي ساهم في هيمنتها على المشهد وتصفية بقيّة الخصوم السّياسيين:
– في 2011 سعت حركة النهضة، من خلال وزنها الانتخابي الذي كان يمثّل حينها تقريبا 30% من أصوات النّاخبين، ومن خلال السّيطرة عدديّا على المجلس التّأسيسي ولغياب شخصية كارزماتية جامعة من بين قياداتها، تمكّنها من خوض الانتخابات الرّئاسية، لتكريس نظام حكم برلمانيّ أرادته على قياسها مع وضع نظام انتخابي نسبي. وقد صرّح عدد من قياداتها حينها، أنّها سوف تبقى في الحكم 30 سنة… ونجحت الحركة في ذلك جزئيّا إذ تصدّت قوى المعارضة والسّلط المضادّة مثل الإعلام والمجتمع المدني في ذلك الوقت، للمشروع وسعت إلى تعديله والحدّ من هيمنتها على المشهد. لكنّ الصّيغة التي وقع الاتّفاق حولها كانت صيغة مشوّهة وغير ناجزة لا تمكّن أيّ قوّة سياسيّة من حكم البلاد وفي المقابل تمكّن جزء واسعا من الطّيف السّياسي من المشاركة في الحكم دون أن يكون لأحد منها إمكانيّة اتّخاذ أيّ قرار نحو هذا المنحى أو ذاك. فالكلّ يشارك في الحكم ولا أحد يحكم. وقد كان لهذه الخيارات عواقب وخيمة ساهمت في سقوط هذه المنظومة وفقدان جزء كبير من الطّبقة السّياسيّة لشعبيّتها ومصداقيّتها لدى الرّأي العامّ.
– في 2022 سعى رئيس الجمهوريّة الحالي، إلى تكريس منظومة حكم على مقاسه. وبما أنّه لا يمثّل عائلة سياسيّة واسعة ولا حزبا شعبيّا كبيرا، فقد اختار نظاما سياسيّا رئاسويّا يركّز كلّ السّلطات بين يديه ويمكّنه من الحكم بمفرده ومن إضعاف كلّ خصومه ولم يعمل حتّى على استكمال النّظام السّياسي الذي كرّسه دستوره مثل تركيز المحكمة الدّستوريّة والمجلس الأعلى للقضاء وهيئة الانتخابات. بل لم يقع حتّى ترميم المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء العدلي ولا هيئة الانتخابات المؤقّتة… وقد بدأت للتو مناشدات المناشدين من أجل تمكينه من عهدة ثالثة خلافا لما ينصّصه دستوره بل يطالب بعض مسانديه بتمكينه من الحكم مدى الحياة…
وقد أثبتت التّجربة أنّ حركة النّهضة لم تستمر في الحكم لمدّة 30 سنة، وكذلك لن يفلح جمهور المساندين للمنظومة الحاليّة في تمرير فكرة الحكم مدى الحياة للشّعب التّونسي. ولكن الخوف، كلّ الخوف أن من سيأتي بعد هاتين المنظومتين سيسعى لتكريس منظومة ثالثة على قياسه هو الأخر، من أجل تأبيد وجوده في الحكم وأن يُعوَضَ التّداول السّلمي على السلّطة بالعودة للصّندوق ولصاحب السّيادة، الذي هو الشّعب التّونسي، بتداولٍ من خلال الصّراعات والانقلابات والتي ستعيق استقرار البلاد وتمنع عنها وإمكانيّة الإصلاح لبناء مستقبل مشرق لأبنائنا وأحفادنا.
أمّا عن مبادرة “العقد السّياسي التّونسي'” المطروحة في حدّ ذاتها،
فهي تتنزّل كما وصّفتها، في إطار الاتّفاق بين الفرقاء السّياسيين حول منظومة حكم تتضمّن تصوّرا دقيقا لنظام سياسي ونظام انتخابي وترسانة من التّنقيحات لقوانين وإلغاءات لمراسيم وتعويضها بقوانين دائمة تمكّن من تكريس نظام سياسي ديمقراطي تعدّدي ناجز ومستقرّ يضمن الحقوق والحريّات والتّداول السّلمي على السّلطة، ويكرّس التّفريق بين السّلط والتّوازن بينها ويمكّن من يفوز في انتخابات نزيهة وشفّافة، من الحكم ومن تنفيذ برامجه الاقتصاديّة والاجتماعيّة بانسيابيّة معقولة دون أن تكون له الفرصة للتغوّل والسّيطرة على مفاصل الدّولة وتصفية خصومه السّياسيين. كما سيمكّن قوى المعارضة من إنتقاد سياسات وممارسات السّلطة ومن تقديم البدائل، وبالتّالي سيتمكّن المجتمع المدني وقطاع الإعلام من القيام بدوره كسلطة مضادّة وكقوّة ضغط واقتراح.
إنّ المهمّة التي نطرحها، من باب الواجب الوطني كمواطنات ومواطنين تونسيّين وناشطات ونشطاء في المجتمع المدني والسّياسي، تطرح اليوم تحديّات عديدة ولعلّ أهمّها:
1- تجاوز أخطاء وخلافات الماضي والتّعامل معها بموضوعيّة ومسؤوليّة من خلال تقديم المصلحة العليا للبلاد على المناكفات والصّراعات الإيديولوجيّة والسّياسية لإتاحة الفرصة لنا جميعا كمواطنات ومواطنين تونسيّات وتونسيّين قبل كلّ شيء، من أجل مواصلة التّنافس السّياسي في مناخ عامّ مطمئن للجميع ويضمن نجاح التّجربة الدّيمقراطية التونسيّة.
2- إيجاد الصّياغة المثلى لإدماج المضامين التي يمكنها أن تحضى بموافقة مختلف الفرقاء السّياسيين على أوسع نطاق من ناحية، وتؤسّس من ناحية أخرى لنظام سياسي ديمقراطي ناجز ومستقرّ.
إنّ ما نصبو إليه من خلال تكريس “العقد السّياسي التّونسي” هو تغيير محاور الصّراع السّياسي والمرور من صراع حول قانون اللّعبة السّياسية من أجل تأبيد من يحكم في السّلطة إلى صراع أفكار ورؤى داخل منظومة سياسيّة سليمة. صراع حول محاور اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية ترفع من شأن بلادنا بين الأمم ومن منسوبها الفكري والحضاري وتضمن النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي لكل التونسيات والتونسيين.
إنّ الاتفاق التّاريخي الذي نريده لن يجعل من المتنافسين السّياسيين حلفاء بأي حال من الأحوال بل سيمكّن من الاتّفاق حول النظام سّياسي الذي نريد لتونس وللأجيال القادمة وأي عقد سياسي نريد كي نتنافس من خلاله دون عنف أو ظلم أو قمع أو تنكيل.
حسام الحامي
المنسق العام لائتلاف صمود