تقارير
الملك العمومي البحري في سبخة المعمورة يُنهب أمام أعين الجميع.. تواطؤ أم عجز؟
هذه السبخة تغطي مساحة تناهز 133 هكتارًا بمحاذاة الشاطئ وتمتد على أكثر من أربعة كيلومترات شمال المدينة

في أقصى الضفة الشرقية من الوطن القبلي وعلى مشارف مدينة المعمورة تمتد سبخة ضيقة قد لا تلفت انتباه عابر لكنها في الحقيقة تكتنز كنزًا بيئيًا ثمينًا وتُعد من آخر معاقل النظم الرطبة المتبقية على الساحل الشرقي التونسي ، انها سبخة المعمورة.
تغطي هذه السبخة مساحة تناهز 133 هكتارًا بمحاذاة الشاطئ وتمتد على أكثر من أربعة كيلومترات شمال المدينة. ونظرًا لغناها النباتي والحيواني صُنّفت ضمن المحميات البيئية العالمية في إطار برنامج الأمم المتحدة للتنمية وخضعت لحماية وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي.
لكنّ الواقع يروي قصة مختلفة…
فرغم هذا التصنيف أضحت سبخة المعمورة بامتدادها الترابي مسرحًا لفضيحة عمرانية وبيئية تمس جوهر السيادة الوطنية على الملك العمومي البحري
فعلى الرغم من انها أراضي مالحة وطينية في الغالب يصفها الفلاحون بـ”الأراضي الحماضة”، لا تنتج ولا تصلح للزراعة ولا للعمران، تجف صيفا لترسب الأملاح على سطحها وتتحول شتاءً إلى مستنقعات بسبب قربها الشديد من مستوى سطح البحر الا انها لم تسلم من جشع وطمع مضاربي الاراضي والعقارات الباحثين عن الربح السريع لتسجل بذلك اعتداءات بالجملة كتشييد فيلات فاخرة بلا تراخيص تنشط في المجال السياحي ( دور ضيافة ) في اعتداء واضح وعلى عدة أمتار على نقاط وحدود الملك العمومي البحري وتسوية الكثبان الرملية وإرفاق مساحات منها للملك الخاص مع تسييجها ليصبح امرا واقعا مع تقسيم هاته الأراضي على غير الصيغ القانونية وقد بلغ الامر حدود الاستيلاء على جزء من المسلك الفلاحي الذي يمتد بدوره على طول 4 كيلومتر اَي على الطول الموازي لسبخة المعمورة ليتم إنهاء مساره الذي يفترض ان يصل الشريط الساحلي من منطقة “تازكة ” و “المزرعة ” و “داروفة ” بالمعمورة ويفتح افاقا للحركة المرورية في المنطقة مستقبلا .
من محمية طبيعية إلى حقل للمضاربة العقارية :
تعرّف السباخ في القانون التونسي بأنها نظم إيكولوجية هشة لا تصلح لأي نوع من أنواع الاستغلال الفلاحي أو العمراني ولا يجوز الاقتراب منها دون ترخيص مع وجوب ترك حزام حماية لا يقل عن 100 متر. وإذا كانت المنطقة كما هو حال سبخة المعمورة مدرجة ضمن قائمة “رامسار” الدولية للمناطق الرطبة ذات الأهمية البيولوجية فإن هذا الحزام قد يمتد إلى 200 متر أو أكثر.
لكنّ الواقع يُكذّب النصوص… إذ تُثبت تقارير ميدانية وشهادات حية من السكان المحليين قيام أطراف نافذة في عالم المال والأعمال خلال العشرية الاخيرة بالبناء واستغلال اجزاء من السبخة ومساحة هامة من الملك العمومي البحري مع غلق المنافذ التي لا يسمح فيها حتى للمترجلين بالمرور والنفاذ للبحر ويتواصل هذا الاعتداء الى اليوم على أجزاء اخرى من السبخة وتسويرها وغلقها دون تراخيص بطريقة ممنهجة لتتخذ المنطقة شكل الإقامات الخاصة الممنوعة على العموم ، والتي تحرم حتى السكان المحليين من حقهم في الوصول الحر إلى الشاطئ وهو حق تضمنه الدساتير في معظم الديمقراطيات البيئية بما في ذلك تونس.
يحدث كل ذلك مقابل صمت رهيب وملفت للسلط المحلية وهياكل المراقبة . وقد تداول مؤخرا رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات توثق الانتهاكات الحاصلة هاته الأيام وقد اثار نشرها مجددا الجدل حول الحقوق المنتهكة والاثار البيئية للبناء الفوضوي الذي فرضه هؤلاء المارقون على القانون والذين تجاوزوا ذلك ليتسبّبوا في إغلاق بعض المسالك الفلاحية القديمة ويجبروا الفلاحين والمصطافين في ظل غياب طرقات بديلة على المخاطرة العالية والالتجاء للطريق السريع MC27 ومخالفة قواعد الحركة المرورية به .
المسؤولية المتناثرة والرقابة الغائبة:
تتداخل المسؤوليات في هذه القضية بشكل يثير الريبة فمن جهة يفترض أن تضطلع وكالة حماية الشريط الساحلي بمتابعة كل نشاط يقع على تخوم السبخة ومن جهة أخرى يُفترض أن تُفعّل بلدية المعمورة صلاحياتها الجديدة في حماية البيئة بموجب القانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 الذي يُحمّل الجماعات المحلية مسؤولية مباشرة في هذا المجال ، لكن على ارض الواقع لا هذه تحركت ولا تلك ردعت.
وتُشير مصادر مطّلعة على وضعية المنطقة إلى وجود تواطؤ محتمل بين بعض الأطراف داخل الهياكل الإدارية والمستثمرين العقاريين ما سهّل تمرير هذه التجاوزات في ظل غياب الرقابة والتنسيق بين مختلف المتدخلين.
قضية سبخة المعمورة ليست الا مثالاً فاضحًا عن انهيار منظومة الحوكمة البيئية في تونس وعملية تدمير التوازن الطبيعي لنظام المناطق الرطبة ولمنظومة الملك العمومي البحري عامة وهي ايضا تعبير واضح عن الفجوة المتسعة بين الواقع والقانون . فرغم وفرة التشريعات، الا ان غياب الإرادة السياسية والرقابة يجعل من هذه النصوص مجرد أوراق ميتة. والأسوأ أن مثل هذه الانتهاكات تمهّد الطريق لتعميم النموذج على محميات أخرى مهدّدة بنفس المصير.
أليس من حقنا أن نسأل من يحمي الملك العمومي ؟؟؟ أين الدولة ؟؟؟ وأين القانون؟؟؟