
أثار إعلان تونس يوم الخميس 20 مارس 2025, وبالتزامن مع الاحتفال بالذكرى 69 للإستقلال, قرارها التاريخي وغير المسبوق بالانسحاب من بروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن إنشاء المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وهو البروتوكول الذي يسمح بموجب إعلان قبول الاختصاص، للأفراد والمنظمات غير الحكومية برفع الدعاوى مباشرةً إلى المحكمة الأفريقية، بعد استنفاذ آليَّات الانتصاف المحلِّيَّة. حالة من الجدل الواسع وردود فعل رافضة داخل الأوساط الحقوقية و رواد التواصل الإجتماعي تجاه ما أقدمت عليه السلطة.
استنكار المنظمات الحقوقية و مطالبة السلطة بالتراجع عن قرارها
أول المستنكرين لقرار سحب الاعتراف باختصاص المحكمة في تلقي شكاوى من المواطنين والمنظمات غير الحكومية ضد الدولة التونسية كانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والتى اعتبرت القرار خطوة “اتسمت بالطابع السري و المباغت”, وفق نص البيان.
كما رأت فيه “انتكاسة خطيرة لالتزامات تونس الإقليمية والدولية، ومحاولة للانسحاب من آلية قضائية مستقلة من شأنها الحد من الإفلات من العقاب وضمان سبل الإنصاف للضحايا”.
وفي هذا الصدد طالبت رابطة حقوق الإنسان السلطات التونسية بضرورة “مراجعة موقفها والعدول عنه احترامًا لتعهداتها القارية والدولية، وضمانًا لاستمرارية مكتسبات حقوق الإنسان في تونس”. داعية المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية إلى “التعبير عن رفضها لهذا القرار، والعمل المشترك دفاعًا عن الحق في التقاضي أمام الهيئات الإقليمية المستقلة”.
وفي ذات السياق طلبت من الاتحاد الإفريقي واللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب”مطالبة الدولة التونسية بالوفاء بالتزاماتها بموجب الميثاق الإفريقي”، مشددة على أن حماية حقوق الإنسان “لا يجب أن تكون موضع تراجع أو مناورة سياسية.” متعهدة بمواصلة : “الدفاع عن الحقوق والحريات بكل السبل المشروعة”.
بينما شجبت اللجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان في تونس القرار واعتبرته “يلغي التزاما تاريخيا” تجاه المحكمة ويُمثل “تنصلا مخجلا” من تعهدات تونس بحماية حقوق الإنسان الفردية والخاصة. ولفتت في بيانها بأن ” القرار يحرم المواطنين التونسيين ومنظمات حقوق الإنسان من إمكانية رفع دعاوى مباشرة أمام المحكمة الإفريقية للطعن في انتهاكات الدولة.
أما الشبكة التونسية للحقوق والحريات فقد قالت إن: “التراجع عن المكتسبات الحقوقية الإقليمية والدولية يعد انتكاسة في مجال الحقوق والحريات.”وأنه من حق الأفراد والمنظمات غير الحكومية الاحتكام إلى هيئات قضائية إقليمية أو دولية مستقلة كضمانة لإقامة العدل.” مطالبة السلطات التونسية مراجعة قراراتها ضمانا لاستمرارية المكتسبات الحقوقية والتزامها بتعهداتها الإقليمية والدولية في مجال حقوق الإنسان. مشددة على عدم المساومة أو المقايضة في حماية حقوق الإنسان باعتبارها أحد الضمانات الأساسية لحياة ديمقراطية تحترم فيها القيم الإنسانية.”
وفي سياق متصل ندد الخبير الأممي السابق عبد الوهاب الهاني بقرار الدولة التونسية سحب اعترافها باختصاص الحكمة الافريقية في قبول دعاوى من أفراد أو منظمات غير حكومية واصفا إياه بأنه “تراجع خطير عن الالتزامات الدولية لتونس وعودة مُشينة إلى الوراء، بالانسحاب “السِّرِّي” من بروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن إنشاء المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب”. معتبرا أن الانسحاب الَّذي وجَّهه وزير الخارجيَّة لمكتب رئيس المفوَّضيَّة الإفريقيَّة بأديس أبابا: “يحرم التونسيين من أفراد ومنظمات غير حكومية من حق الوصول إلى المحكمة الأفريقية والتقاضي الإقليمي والدولي برفع الدعاوى مباشرةً إلى المحكمة الأفريقية”.
وكان إعلان صادر عن وزارة الشؤون الخارجية جاء فيه:” تعلن الحكومة التونسية سحب اعترافها باختصاص المحكمة (الإفريقية لحقوق الإنسان), في قبول العرائض الصادرة عن الأفراد والمنظمات غير الحكومية.” دون أن يحدد الإعلان أي سبب لانسحاب الحكومة.. حيث اتخذ قرار الانسحاب بدون التَّداول فيه في مجلس الوزراء لا برئاسة رئيس الجمهورية قيس سعيِّد ولا برئاسة الحكومة، ولا أمام البرلمان بغرفتيه، وفق تعليقات المتابعين على مواقع التواصل الإجتماعي.
تجاذبات ميزت العلاقة بين المحكمة الأفريقية والسلطات التونسية منذ 2021
الدولة التونسية سبق وإن منحت مواطنيها والمنظمات غير الحكومية حق تقديم التماسات إلى المحكمة عام 2017 بعد أن برزت باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة بعد ثورات”الربيع العربي” عام 2011
من بين المؤاخذات التي سجلتها الحكومة التونسية على المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان تكرار توجيه الانتقادات للرئيس قيس سعيد خاصة فيما يخص” التدابير الاستثنائية” التي اتخذها يوم 25 جويلية 2021 واعتبرتها غير دستورية. إضافة إلى قضية إقالة القضاة واعتقال أبرز قادة العمل السياسي في تونس و عدد من الصحفيين والمدونين ونشطاء العمل المدني و الإنساني و نقابيين. غير أن السلطات التونسية لم تستجب لأي من قرارات المحكمة المذكورة.
ومن بين الدعاوى القضائية التي قدمها مواطنون تونسيون للمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان كانت شكاية مرفوعة من أقارب أربع من الشخصيات السياسية المعارضة المسجونين ومن بينهم رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي و آخرون وذلك في ماي 2023 للمطالبة بالإفراج عنهم.
وفي أوت من نفس السنة أصدرت المحكمة الأفريقية, حكما ضد السلطات التونسية وحثّتها على الكف عن منع الموقوفين من الاتصال بمحاميهم و أطبائهم.”.
المحكمة الأفريقية لم تكتفي بتلك الأحكام فقط, بل أصدرت بتاريخ الـ 3 أكتوبر 2024 أمرا استعجاليا للسلطات التونسية بإيقاف العمل بالمرسوم عدد 35 والأمر عدد 516 وإعادة القضاة الواقع إعفاؤهم إلى مناصبهم، وذلك في القضية التي رفعها المحامي ابراهيم بلغيث في حق القضاة حمادي الرحماني وسامي بن هويدي ومكرم حسونة وخيرة بن خليفة ضد الدولة التونسية.
لمحة تاريخية عن المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب
يذكر أن المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب هي محكمة قارية دعت لإنشائها عدة دول إفريقية لضمان حماية حقوق الإنسان والشعوب في القارة. وهي تكمل و تعزز دور اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب. وقد تم وفق بروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان واعتمدت الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية خلال قمة واغادوغو بجمهورية بوركينا فاسو سنة 1998.ودخل البروتوكول حيز النفاذ في 25 جانفي 2004.
وقد صادقت عليه 32 دولة أفريقية. 8 دول فقط من جملة 32 دولة طرفا في البروتوكول الذي يعترف باختصاص المحكمة لتلقي القضايا مباشرة من المنظمات غير الحكومية و الأفراد.
و الدول الثامنيو هي: بوركينا فاسو وغامبيا وغينيا بيساو ومالي ومالاوي و النيجر و تونس قبل أن تعلن انسحابها مؤخرا في 20 مارس الحالي.
وتتكون المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان من 11 قاضيا. وقد انتخب أول قاضي سنة 2006 في الخرطوم السودانية. وينتخب القضاة لمدة ست سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.
بدأت المحكمة عملها رسميًا في أديس أبابا ، إثيوبيا في نوفمبر 2006. وفي أغسطس 2007 ، انتقلت إلى مقرها في أروشا بجمهورية تنزانيا المتحدة. بين عامي 2006 و 2008 ، عالجت المحكمة بشكل أساسي المسائل التشغيلية والإدارية ، بما في ذلك تطوير هيكل قلم المحكمة ، وإعداد ميزانيتها وصياغة نظامها الداخلي المؤقت