![](https://tumedia.net/wp-content/uploads/2025/02/Ben-romdhan_20250203_225715_0000-780x470.png)
تحصل موقع توميديا على نسخة من القرار التعقيبي الذي صدر اليوم 3 فيفري 2025 و المتعلق بقضية المحامية والإعلامية سنية دهماني في خصوص تصريحات إعلامية تحدثت فيها عن وضعية المساجين في تونس، وفيما يلي نصه:
نص القرار التعقيبي
******
عن المطاعن المتعلقة بالخطأ في تطبيق الفصل 24 من المرسوم عدد 54 لسنة 2022 وضعف التعليل وهضم حقوق الدفاع لاتحاد القول فيها:
حيث أحيلت المعقبة على التحقيق من أجل ارتكاب جريمة الفصل 24 من المرسوم عدد 54 وكان ذلك على خلفية ما صدر عنها من تصريحات ببرنامج إذاعي مفادها أن بعض المساجين يتعرضون داخل السجون المعاملة منافية لحقوق الانسان.
وحيث يعيب دفاع المتهمة على محكمة القرار المنتقد سوء تكييف الأفعال المنسوبة لها وتطبيق نص قانوني لا مجال لتطبيقه على وقائع القضية لما لذلك من خطورة على حرية الرأي والتعبير.
وحيث ان البت في مدى وجاهة تطبيق الفصل 24 من المرسوم عدد 54 على ما صدر عن الطاعنة من تصريحات إذاعية يقتضي التذكير بأن المنظومة التشريعية التونسية هرمية تخضع لمبدأ تدرج القواعد القانونية طبقا لما يعرف بهرم كلسن ومفاده وجوب احترام النص الأدنى للنص الأسمى، فلا تحرز قاعدة قانونية على مشروعيتها الا اذا كانت منسجمة وغير متناقضة مع القوانين الأعلى منها درجة. واحترام مبدأ التدرج أو التراتبية لا يحمل على واضع القانون فقط وانما يجب أن يلتزم به كذلك من تعهد له سلطة تطبيقه، فيكون محكوما عند تطبيق النص القانوني بالالتزام بمقتضياته دون زيادة أو تحريف أو افراط واذا ما اقتضت الضرورة تفسير النص أو تأويله، فان ذلك لا يكون متاحا الا بالقدر الذي يتناسب. مع أسباب ومقاصد وضعه من جهة وألا يتعارض تأويل ذلك النص مع النص القانوني الأعلى منه مرتبة من جهة أخرى.
وحيث حظيت الحقوق والحريات بمكانة متميزة في المنظومة القانونية التونسية، فخصص لها الدستور بابه الثاني وصادقت الدولة على جل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات العلاقة من ذلك الإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والميثاق الأفريقي لحقوق الانسان والشعوب الا أن ممارسة الحقوق والحريات المضمونة بالدستور وبالاتفاقيات الدولية دون ضوابط من شأنه أن يؤدي الى الفوضى والتصادم وتقويض السلم الاجتماعي لذلك كان لزاما الإقرار للدولة بالحق في وضع قيود على ممارسة تلك الحقوق والحريات.
وبهذا المعنى فان حماية حرية الرأي والفكر والتعبير بمقتضى الفصل 37 من الدستور والمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان وكذلك المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لا يتعارض مع إقرار هاته القوانين بإمكانية وضع قيود على تلك الحرية كغيرها من الحريات الأساسية وذلك بهدف حماية حقوق الغير أو المقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العمومية.
وحيث وحتى تبقى الحقوق والحريات هي المبدأ ويظل القيد هو الاستثناء، أجمعت تلك النصوص على ضرورة أن تكون القيود محددة بنص القانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي ” الفصل 55 من الدستور والفصل 29 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان والفصل 21 و 22 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”. وقد تولت المحكمة الأوربية لحقوق الانسان واللجنة الأممية لحقوق الانسان توضيحمفهوم مصطلح “المجتمع الديمقراطي” بأنه مجتمع يقوم على التعددية وعلى التسامح وعلى الانفتاح.
وحيث لا خلاف أن المرسوم عدد 54 يتنزل في اطار القيود المشار اليها أعلاه، لذلك خصصت أحكام فصله الثاني للتذكير بضرورة احترام هرمية المنظومة التشريعية، وذلك من خلال الزام السلط العمومية عند تطبيق أحكام هذا المرسوم بالضمانات الدستورية وبالمعاهدات الدولية الإقليمية والثنائية ذات العلاقة. المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية والالتزام بمقتضيات التشريع الوطني في مجالي حقوق الانسان والحريات وحماية المعطيات الشخصية.
وحيث اقتضت أحكام الفصل 24 سند الإحالة في قضية الحال ما يلي: “يعاقب بالسجن لمدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لانتاج أو ترويج أو نشر أو ارسال أو اعداد أخبار أو بيانات أو اشاعات كاذبة أو وثائق. مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الاضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر أو إشاعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الاضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض عليه أو الحث على خطاب الكراهية.
وتضاعف العقوبات المقررة اذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه.”
وحيث تقتضي القراءة السليمة لأحكام الفصل 24 المعروضة الرجوع إلى الفصل الأول من المرسوم والتي حددت الهدف من إصداره بأنه التوفي من الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وزجرها الدولية والإقليمية والثنائية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية. وتلك المتعلقة بجمع الأدلة الالكترونية الخاصة بها ودعم المجهود الدولي في المجال في اطار الاتفاقيات ولعله من نافلة القول أن النص الواضح يطبق ولا يؤول، أما اذا اعترت عبارات النص غموضا، فإن التأويل لا يكون لزيادة التضييق وانما باتجاه التيسير عموما ولفائدة المتهم بصفة خاصة في القانون الجزائي. فللقاضي الجزائي سلطة تفسير وتأويل عبارات النص القانوني الغامض بمناسبة تطبيقه، الا أن ذلك يظل محكوما بقواعد لا يمكن له أن يحيد عنها ومن أهمها احترام المنهجية التي سنها المشرع للغرض. وكل تأويل يبتعد عن هذه المنهجية يمثل خطأ يعرض الحكم للنقض.
وحيث تميزت أحكام المرسوم عدد 54 بالوضوح والدقة بخصوص مجال تطبيقه، حتى أن الفصل 5 منه اعتنى بتعريف المصطلحات درءا لكل خلط بين الجرائم التي قصدها المشرع من من هذا المرسوم وبين جرائم أخرى مشابهة ولكن خارجة عن مجاله، من ذلك مصطلح نظام معلومات” والقصد منه مجموعة برمجيات وأدوات وأجهزة … تقوم بعمليات المعالجة الآلية للبيانات. وغيرها من المصطلحات التي يتأكد من مفهومها على معنى الفصل 5 المذكور أن إرادة المشرع قد اتجهت نحو سد الفراغ التشريعي بخصوص الجرائم المستحدثة نتيجة التطور التكنولوجي وتنوع نظم البرمجيات وأجهزة حمل وتخزين البيانات والمعلومات وتعدد مواقع الاتصال الاجتماعي
وحيث وعلى فرض اعتبار أحكام المرسوم قابلة للتأويل، فان تأويلها يستوجب حتما الالتزام بمقتضيات الفصل 2 منه التي جاءت منسجمة مع أحكام الفقرة الثانية من الفصل 55 من الدستور التي نصت على أن القيود يجب ألا تمس بجوهر الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وأن تكون مبررة بأهدافها متناسبة مع دواعيها.
وفي نفس السياق وردت أحكام الفصل 30 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان التي جاء بها أنه ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يقيد الحريات، فيكون التفسير دائما لصالح الحريات وليس الصالح التقييد.
ويكون مجال تطبيق أحكام المرسوم تبعا لذلك منحصرا في الجرائم التي ترتكب عن طريق أو باستعمال أنظمة المعلومات والاتصال والبيانات والبرمجيات الالكترونية القابلة للمعالجة، ولا تشمل بالتالي أراء الصحفيين والإعلاميين التي يعبرون عنها بوسائل الاعلام المقروءة أو المسموعة أو المرئية وذلك للأسباب التالية:
أولا: لأن ما جاء بالفصل الأول من المرسوم كاطار عام للجرائم التي ينظمها لم يشمل الجرائم التي قد يرتكبها الصحفي أو الإعلامي أو أي متدخل في الفضاء العمومي بمناسبة ابداء رأيه في مسألة ما أو التعليق على خبر أو إعطاء موقف من قضايا تهم الشأن العام، وهو ما يؤكده تعريف المصطلحات الوارد بالفصل 5 من المرسوم وتدعمه ما تضمنته أحكام الفصلين 6 و 7 من نفس المرسوم من واجبات محمولة على مزودي خدمات الاتصال والجهات الموكول لها حفظ البيانات والمعطيات المخزنة ومن التحجير على من كلفوا بتنفيذ الأذون القضائية بالنفاذ الى تلك المعطيات افشاء السر المهني بخصوصها. كل تلك والسيبرنية وتسمى بالفرنسية Les cybercrimes الفصول وغيرها من المرسوم تدعو إلى الجزم بأن مجال تطبيقه يتعلق حصريا بالجرائم المعلوماتية
ثانيا: لأن قواعد التأويل على النحو المبين أعلاه لا تسمح بتأويل موسع المجال تطبيق أحكام المرسوم حتى لا يؤول الأمر إلى المساس بجوهر الحقوق والحريات وافراغها من مضمونها لفائدة القيد.
ثالثا: لأن الجرائم التي ترتكب في اطار العمل الصحفي بشكل عام ينظمها المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2011/11/02 وينظم المرسوم عدد 116 الصادر بنفس التاريخ الجرائم التي ترتكب في وسائل الاعلام السمعية والبصرية، وليس هناك ما يبرر اصدار قانون آخر لمكافحة نفس الجرائم. لاختلاف الموضوع ومجال التطبيق بينها. رابعا: لأنه لا يمكن لأحكام المرسوم عدد 54 أن تستوعب أو تنسخ أحكام المرسومين عدد 115 و 116
وحيث بالرجوع الى أوراق الملف، يتضح أن مضمون التصريحات التي أدلت بها المعقبة قد وردت في سياق التعليق على ما نشر بالصحافة وما تناقلته وسائل الاعلام من أخبار حول تعرض بعض المساجين المعاملات مخالفة لحقوق الانسان داخل السجون ومنها عدم توفير الخدمات الصحية لأحد المساجين المرضى وعدم تجهيز زنزانة البعض منهم بالمرافق الصحية ومنع الزيارة عن البعض الآخر، وأن هيئات الدفاع عن هؤلاء المساجين قد فسرت ذلك بالرغبة في التنكيل بهؤلاء المساجين على خلفية انتماءاتهم السياسية.
وحيث ان الخوض في ظروف المساجين والتعليق على المعاملة التي يتلقوها في المؤسسات السجنية والنقائص التي يشكو منها المساجين في حياتهم اليومية اثناء تواجدهم بالسجن هي من الأمور التي كثيرا ما يتم تداولها في الصحافة والاعلام وذلك اما لنقدها أو لنبذها والتنديد بها أو لتحسيس الجهات المعنية بضرورة الانتباه لها واتخاذ الإجراءات اللازمة للحد منها.
وحيث ان اثارة هذه المسألة من قبل المعقبة في اطار البرنامج الإذاعي الذي كانت تؤلله كمعلقة “chroniqueuse” وتداولها لما راج بخصوص طريقة معاملة هؤلاء المساجين داخل السجون ثم التعبير عن استيائها من تلك المعاملة لا يدخل تحت طائلة الفصل 24 من المرسوم على النحو المبين أعلاه وان ثبت عدم صحة تلك التصريحات، فإن صاحبتها تكون موضوع مساءلة على معنى أحكام المرسوم عدد 115 المذكور.
وحيث أن توجيه تهمة الفصل 24 من المرسوم عدد 54 على المعقبة من أجل ابداء رأيها بخصوص تلك المسألة، مرده سوء فهم أحكام المرسوم المذكور والخطأ في تكييف الأفعال موضوع القضية، التي لا تندرج كما بينا ضمن أي جريمة من الجرائم التي ينظمها ذلك المرسوم.
وحيث أن الخطأ في اختيار السند القانوني سوف ينعكس لا محالة على بنيان القرار ومستنداته، وهو ما يفسر سكوت الدائرة عن تحديد الفقرة مناط الإحالة، فلم تذكر أن كانت الأفعال المنسوبة للمتهمة تنضوي تحت طائلة الفقرة الأولى أم الثانية من الفصل 24 المذكور، كما تحديث الخوض في الاستدلال على توفر أركان الجريمة المنسوبة للمظنون فيها، وتغاضت عن البحث في مدى توفر ظرف التشديد الذي قررت على أساسه إحالتها على الدائرة الجنائية، والحال أن تصريحات الطاعنة قد تعلقت بنقد ممارسات مخالفة الحقوق السجناء دون أن توجه اصبع الاتهام لشخص بذاته أو تحدد الجهة المسؤولة عن تلك المخالفات
وحيث لم توفق دائرة الاتهام في إضفاء التكييف القانوني السليم على وقائع قضية الحال ولم يكن تأويلها للفصل 24 منسجما مع باقي أحكام المرسوم ومع مقتضيات النصوص القانونية الأعلى منه درجة وأضحى قرارها مشوبا بخرق القانون والافراط في السلطة وسوء التعليل.
وحيث تبعا لسلطة هذه المحكمة في مراقبة سلامة تطبيق القانون من قبل محاكم الموضوع ونظرا للواجب المحمول عليها في حماية الحقوق والحريات من أي انتهاك عملا بأحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 55 من الدستور، فانه يتعين التصريح بقبول مطلب التعقيب أصلا ونقض القرار المطعون فيه.