ثقافةرأي

صابر الوسلاتي …أو كيف تبدعُ في تجسيد الفساد لدى شخصية تونسية

ثقافة

بقلم خولة بوكريم

“الديناري مرَّ من هنا….…je mange tu manges”

عبارات طُبعت على ألسنة التونسيين منذ بداية شهر رمضان الفائت، تاريخ عرض مسلسل رقوج على قناة “نسمة الجديدة” الخاصة، يتداولونها على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، ويركبونها على فيديوهات، وأصبحت حتى تذيل تدويناتهم في شكل هاشتاغ، وعنوانا للتهكم والسخرية وحتى النقد اللاذع على كل مظاهر عشق الماديات والانتهازية والأنانية والنفاق الاجتماعي وعالم المصالح بأكوانه القذرة. 

“الديناري مرَّ من هنا….…je mange tu manges” كلمات أطلقها الممثل صابر الوسلاتي عندما أبدع في تجسيد شخصية رئيس البلدية الفاسد، “الديناري”.

 

صابر الوسلاتي تفوق على نفسه

الوسلاتي لم ينجح فقط في جعلنا نصدق أن رئيس البلدية الفاسد الذي تقمص شخصيته، موجود وحقيقي، بل التهم أبعاد الشخصية وتفوَق على نفسه، حتى اكتسب تعاطف بعض التونسيين معها، بعدما أبدع في الجانب الكوميدي وعرَّف جليا بثنايا الفساد وخباياه في الإدارات الحكومية التونسية، و وضع اصبعه على الداء ومن أين يبدأ وأين يقف، علاوةً على تقمص الجانب الإنساني للشخصية الفاسدة الأنانية، التي أبرزت ضعفا ورومانسية ورغبة في العطاء والحب وحتى التضحية عكس ماتظهره من شدة وقوة وقسوة على أهالي رقوج، وكل هذا فقط لأجل عيون الحبيبة “نسيمة” التي استشفينا من خلال رفضها الشديد له، وعدم قبولها بالدخول في علاقة معه، ضربا من ضروب المقاومة النسوية في مجتمع ريفي ذكوري محافظ في حين خيرت نسيمة محافظ الشرطة المستقيم الساعي طول الوقت إلى إقامة العدل، رغم الصعوبات.

 

الوسلاتي أقنع الجمهور إلى حدود التصديق بأن المشهد الذي جسده وهو مرتديا “روب” النوم، داخلا به إلى مقر البلدية عند توقيت العمل الرسمي، مشهد حقيقي مائة بالمائة وليس مجرد صناعة دراما، مشهد مرسخ في ذهن التونسيين وقناعاتعهم عن المسؤول الفاسد، الذي يعتقد أن البلدية، أو المؤسسة، مزرعة خاصة، وملكية شخصية، يفعل بها مايشاء ويعيث فيها فسادا كما يشاء وما من سائل.

 

طريقة الديناري في أداء دور رئيس البلدية الفاسد رجتنا من جديد حتى نتذكر أن أسوء النماذج في الفساد تعيش معنا وموجودة بيننا وأقرب مما نتصور، وأن الفساد ليس كائنا هلاميا، بل يبدأ حين نقرر نحن التطبيع معه وغلق أعيننا عنه، والتعامل معه، وهو مايجسد الديناري مع أهالي رقوج

 

نظرات صابر الوسلاتي الثاقبة لكل فريسة تعترضه، ضحكاته الساخرة، مشيته المهيبة قصد التخويف، حركات يده، كل تفاصيل الشخصية تؤكد لك أنك تشاهدٌ مسؤولا تونسيا فاسدا، كالذي يعترضنا في يومياتنا إن كان في العاصمة وخاصة في المناطق الداخلية البعيدة عن رقابة سلطات المركز واعيون المدينة وكبار المتحكمين فيها.

 

ولربما من حظ صابر الوسلاتي أو عبقريته، أن يجسد دورا، ساهم في بناءه حرفيا، وتشييد معالمه، وأبعاده، كيف لا وقد جسد مسلسل رقوج النموذج الأمثل للكتابة الجماعية للسيناريو، أمر لا يتكرر كثيرا في الإنتاج الدرامي التونسي. حيث أنتج ورق التحفة الدرامية إلى جانب صابر وسلاتي كل من عبد الحميد بوشناق، وهالة عياد، وليد عيادي، وعزيز الجبالي.

 

إذن هنا نتحدث عن ديناري نابع من أعماق الوسلاتي الذي عرفناه قبل هذا العمل يمارس التعليق الساخر على الاحداث السياسية والاجتماعية في تونس، بأسلوب مضحك حد الوجع، فلطالما كان الوسلاتي مباشرا في اختيار كلماته وتعبيراته حتى يصف يوميات هذا الوطن التي في غالبها حزينة، وأحسن ما يميزه غياب الإيقاع التلميعي والتبيضي للألم، لذلك كان الديناري أفضل شخصية فاسدة يمكن تقديمها كعينة للوقوف على نكبة وطن بأكمله.

 

أصل الفساد …إنسان

 

” نا الحاجة إلي مانجمش ناخذها بيديا ناخذها بسنيا “

عبارة أخرى من التي ميزت المسلسل وميزت شخصية الديناري الذي يجسدها صابر الوسلاتي وتفيد “بأنه قادر على الحصول على مايريد إن لم يكن بيديه فبأسنانه” وهنا العبارة غاية في الدلالة  والإيحاء على الوحشية،  التي تعتري الشخصية وتلفها والدرجة العالية من الانتهازية.

العبارة المذكورة أعلاه كانت بالروعة والقوة المطلوبتين بعد أن كشف الديناري الجزء الخفي من شخصيته، وعمقها الإنساني عندما طلب حبيبته “نسيمة” للزواج ورفضته بعبارات عرت حقيقة شخصيته وبينت له أنه شخصية لا تستحق لا الاحترام ولا الحب لأنها تتمعش من حقوق الناس والرشوة، وهنا برز التحول المبدع في أداء صابر الوسلاتي من عيون تلمع لأن نسيمة تقف أمامه وأياد ترتعش وهي تحتضن الورد الذي يريد صاحبه تطويق حبيبته به، ومن ابتسامة عريضة وملامح عاشق محب بريئة، إلى وحش كاسر وعيون براقة مثل النسر المتلهف على الفتك بالفريسة وعنف في الانقضاض على الحبيبة المتمردة، بضع دقائق كانت كفيلة بأن ينتقل بنا الديناري من شخصيتين متناقضتين تماما لكنهما حقيقيتان تسكنان جسده وروحه.

مشهد رائع ليس هناك أفضل منه فرصة حتى يثبت فيه الممثل الذكي موهبته أمام الجمهور ويتقمص التناقضات الحقيقية للإنسان.

لكن يبقى السؤال ماذا يخبىء لنا الديناري في للجزء الثاني من المسلسل الذي أصبح مطلبا شعبيا، سيما وأن النهاية أقفلت بسجنه ؟

 

 

خولة بوكريم

رئيسة تحرير ومؤسسة موقع تونس ميديا، أستاذية في الصحافة وعلوم الأخبار صحافية استقصائية، متخصصة في تحقيقات قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان مدربة في الصحافة وقضايا الجندر ومكافحة الأخبار الزائفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى