وثائقيات

وثائقيات توميديا/ قد يفنى الجسد…لكن الفكرة لا تموت…في دفاع أستاذ القانون الدستوري عن حريته

حقوق وحريات

 

وثائقيات توميديا/ قد يفنى الجسد…لكن الفكرة لا تموت…في دفاع جوهر بن مبارك أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك عن حريته

بقلم خولة بوكريم

إنه منتصف النهار بتوقيت تونس، العاشر من ماي 2024، كانت قاعةُ الجلسة عدد 3 بمحكمة الاستئناف بالعاصمة تعجُ بالناس، لا يوجد حتى سنتميترات فاضية للوقوف، أمنيين ومحامين وحاضرين مع المتهمين. 

المكان لم يكن من السهل أن ترى فيه أي شخص نظرا لكثافة نساء ورجال الشرطة المنتشرين في كل زواياه ويحاولون التقاط أي مخالف للقانون باستعماله هاتفه أو كامرا لتصوير مجريات الجلسة.

محاكمة مدنية مُعسكرة

دخل القيادي بجبهة الخلاص الوطني المعارضة جوهر بن مبارك وقفزت الناشطة السياسية المعارضة شيماء عيسى ووالده عز الدين حزقي و فايزة راهم زوجة المعتقل السياسي عصام الشابي ومنى الغربي زوجة القاضي السجين بشير عكرمي جميعهم ومعهم بعض من هيئة الدفاع عنه، يرددون النشيد الوطني التونسي.

بعدها طلبت القاضية الجميع بالتزام الهدوء، لكن هذا المراد لم يحدث، وهي تهمُّ بسؤال جوهر عمَّا نُسب إليه، بأنه قال في حوار تلفزيوني على قناة الزيتونة المحاصرة من قبل النظام الحالي بالقضايا، قلت ياجوهر إن الانتخابات التشريعية انتخابات مهزلة”، مشددة في سؤالها على أن الشكاية رفعها فاروق بوعسكر، القاضي ورئيس الهيئة المكلفة بتنظيم الانتخابات والمعين من قبل قيس الدولة قيس سعيد، وأن في تصريحه مس منه ومن هيئته وأعضائها وطعن في مصداقيتها.

بدأ جوهر يهمُ بإلرد:

أنا سعيد اليوم لأنني في حضرة قاضي، لم أرَ قاضيًا منذ مدة طويلة، آخر مرة أخذوني لملاقاة قاضي التحقيق لكنه هو الذي غاب، أنا سعيد أيضا لأنني وسط هذا الجمع الغفير من الناس الذي كنت محروما منه في غرفة، جدرانها باردة تأسرني معزولا عن العالم.

 

قاطعته  القاضية أكثر من مرة، وطالبته بأن يختصر ويقدم لها إجابة مباشرة على سؤالها، وماكان من جوهر سوى:

 

انتظري..واسمحي لي بأن أقول كل شيء، وسيأتيك ردّي تباعا لا تستعجلي ..أنا جاهز، لكن قبل ذلك لديّ ما أفصح عنه.

 

فجأة، صرخ المحامي سمير ديلو في وجه القاضية غاضبا:

لماذا هذا التعسف في حقنا، لماذا هذه العسكرة للقاعة، هل جوهر بن مبارك إرهابي؟ سجلي لي اعتراضي.

نظرت إليه القاضية بصوت هادىء ولكن المضمون غاضب:

التزم الهدوء، لماذا تصرخ؟ بإمكانك إيصال رسالتك دون صراخ.

 

رد ديلو مزمجرا، “إن توفر لي مصدح فلن أصرخ، وأنا كل ما أريده، ضمان محاكمة عادلة لمنوبي.

في ذات اللحظة التقطت المحامية دليلة مصدق الكلمة من ديلو، شقيقة المتهم جوهر بن مبارك قائلة:

 من غير المعقول أن يجلس الأمنيون في مكان المحامين، لماذا هذه المعاملة.

 ثم ارتفع صوت المحامي عياشي همامي قائلا:

 في مثل هذه الظروف لا وجود لمحاكمة عادلة ومنوبي تحت الضغط علاوة على تدهور حالته الصحية بسبب إضراب الجوع، ونحن أيضا كلسان دفاع تحت الضغط وهذا الحضور الأمني الكثيف نعتبره ترهيبا وتخويفا لنا، سجلي لو سمحت رفضنا له.

 

على الجانب الآخر من القاعة، على يسارها، يجلس لزهر العكرمي وعشرات المحامين الآخرين في هيئة الدفاع عن جوهر بن مبارك، وربما هو مشهد كفيل حتى نفهم أن تقسيم جلوس المحامين بتلك الطريقة لاكتظاظ التواجد الأمني.

العكرمي لم يكتمها وصرخ هو الآخر رافعا إصبعه، بعد ان عدل نظاراته:

حتى في عهد بن علي حاولوا ترهيب المحامين ولم ينحجوا، وإن كان الهدف هو قلب المحاكمة من مدنية إلى عسكرية وبث الرعب في نفوسنا ومونوبنا، بحضور هذا الجمع الغفير من الأمنيين، لماذا لم تحيلوه مباشرة على المحكمة العسكرية إذن، على الأقل يكون الأمر مفهوما، وأما ما أنتم بصدد فعله الآن وتسهيله والتغاضي عنه هو فضيحة في تاريخ القضاء التونسي.

 

الجسد يفنى والفكرة لا تموت

أحرجت القاضية…مع علو صوت المحامي عبد العزيز الصيد هو الآخر بعد أن أفرغ العكرمي ما بجعبته، وحاولت امتصاص غضب الغرفة بإعادة الكلمة لبطل القصة المحتجز منذ أكثر من 14 شهرا في قضية التآمر على أمن الدولة، وفي نفس الوقت يحاكم لأنه وصف الانتخابات التشريعية التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 11 بالمائة بالمهزلة.

تفضل جوهر…تفضل …

سيدي القاضية..ربما مداخلتي ستغنيك عن كل الأسئلة، في البداية أود أن اشكر كل من تضامن معي في إضراب الجوع، وأنا ممتن لكل رسائل رفعه لكنني مواصل..

سأواصل إضراب الجوع ليس احتجاجا على من أودعني السجن.

من أودعني السجن ليس طاغية كي أحتج عليه، لأنني لا أنتظر منه شيئا، ولن أواصل إضراب جوعي احتجاجا على القاضي والقضاة الذين خرقواكل مقومات المحاكمة العاجلة وتجاوزوا آجال الإيقاف التحفظي، حيث مرت 14 شهراومازلت محتجزا، نعم أنا في حالة احتجاز قسري وهي جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

سأواصل إضرابي من أجل إنسانيتي وما تبقى من القضاة محافظين على العدالة والحق.

لأن من قال لكم إنكم صرتم موظفين ولستم بسلطة (في إشارة لرئيس الدولة قيس سعيد الذي ألغى مفاهيم السلط في دستور 2022 ويخاطب القضاة على أنهم موظفين)، لم يصدقكم القول وقد تلاعب هنا بالمفاهيم. أنتم سلطة …نعم أنتم سلطة لا سلطان عليكم سوى القانون وضمائركم، ومن قال لكم ذلك يريد أن ينصب نفسه سلطاناً عليكم.

ومن نكبات العلو الشاهق في التاريخ، أنها فشلت في إنجاح كل مقارباتها، إلا واحدة، هي مافعلته بالقضاء، فلأول مرة في تاريخ القضاء في العالم وفي بلادنا، بعد أن كان الاستبداد يعتمد على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لإسكات أصوات المخالفين له في الرأي، إلا أن هذه المنظومة التي نرزح تحت ظلمها وضعت القضاء في الواجهة.

في السابق كانت الملفات تأتيكم جاهزة بتهمها وأدلتها وتعذيبها وأحكامها، لكن اليوم اصبحت الملفات تأتيكم فارغة تافهة لا يصدق جديتها ومحتواها عاقل.

 

في الفرق بين الرأي والخبر

سيدتي القاضية..

هذه القضية هي قضية رأي، قضية سياسية، لنتذكر أن كل القضاة الذين أرادوا محاكمة الرأي والفكر والإبداع والخلق، كلهم فشلوا في ذلك عبر التاريخ

نكلوا بالجاحظ وبالمعري وبابن رشد، نكلوا بالنساء وحاكموهم كساحرات، لأنهن كن مثقفات وصحابات شخصية ورأي، لكن هل قتلوا فكرة الجاحظ وابن رشد؟ عندما حاكموا غاليلي وقطعوا رأسه، هل توقفت الأرض عن الدوران؟

تفنى الأجساد وينكل بها لكن الأفكار لا تموت…

وبالعودة إلى قضيتي، الملف لا شيء فيه، تافه، لذلك لا تسقطوا في هذا الفخ إنني أحاكم لأجل راي صدحت به.

لا تحاصروا الفكرة..

منذ عقود حوكم والدي أيضا لأجل ذات السبب ..الفكرة، وكنت أنا وأختي ‘يلتفت إلى دليلة ويشير إليها بإصبعه” كنا فخورين به، واما ذات القاضي فلا أعتقد أن أبنائه اليوم فخورين به.

 

المعتقل السياسي جوهر بن مبارك يرفع علامة النصر في قاعة محكمة الاستئناف، 10 ماي 2024، بعد أيام من إضراب الجوع

يهب عز الدين الحزقي من مكانه: 

فخور بيك…ثم دليلة..فخورين بيك…

يواصل جوهر:

التاريخ لئيم لا يحفظ إلا نوعين اثنين من القصص، قصص على الأبطال وقصص على الذين عذبوهم ونكلوا بهم.وأما قصص الأبطال فتكبرُ وتنمو نبراساً، وقصص الأنذال تضمحلُ، لتصبح قصصا سوداء تروى حتى يتعظ منها الآخرون.

القاضية:

جاء في نص الإحالة بأنك تعرضت لفاروق بوعسكر رئيس “الايزي” (هكذا نطقتها، وتقصد الهيئة المنصبة من قبل رئيس الدولة قيس سعيد والتي أعدت وتعد كل الانتخابات التي طلبها منها)، في تدوينتك

صرخ جوهر:

لا هو تصريح وليس تدوينة.

أنا لا يعنيني بوعسكر ولا ولم أتحدث عن الأشخاص، الانتخابات ليس ملكا لبوعسكر، بل هي عملية سياسية قبل أن تكون عملية تقنية وتنظيمية، هيئة الانتخابات أتت منذ 2011 لتشرف على انتخابات نزيهة وشفافة.

أنا تصريحي في هذا الشأن سياسي، عندما قلت إن رئيس الدولة خرج أمام الجميع وقال بعدما أغلق البرلمان بمدرعة وحل المجلس الأعلى للقضاء والهيئات الدستورية ومزق دستور البلاد، وعد بتنفيذ استشارة وطنية، ثم حوار وطني فدستور وأخيرا انتخابات.

 

الانتخابات هذه محطة سياسية من حقي أن أعبر عن رأي فيها، فعندما أقول الانتخابات المهزلة، واضح وجلي بأن المقصود، ليس الشتم، وأني أتحدث عن الخارطة الانقلابية، وهذه الانتخابات كما سبق وشرحت هي محطة من المحطات الانقلابية، فالأمر إذن يتعلق برأي سياسي وليس له علاقة بالتنظيم التقني والتشكيك فيه.

فاروق بوعسكر لا شأنه له فيما قلت، لم أتعرض له ولا لأعضاء هيئته، لست أصلا معترف بتلك الانتخابات، حتى أتحدث عن تنظيمها وأشكك فيها.

يصمت قليلا…جسده منهك مضرب عن الطعام لأكثر من 10 ايام يحاول التماسك حتى لايسقط وصمم أن يواصل ماخلته واقفا

قرأتُ المعاينة وبقيت أبحث عن الخبر الزائف الذي وجهت إلي تهمة ترويجه عبر تصريحي.

الخبر لم يكن زائفا، عندما أقول الانتخابات مهزلة ومحطة انقلابية، لا يوجد خبر هنا، في هذه الجملة.

الخبر يقدم معلومة إما صحيحة او خاطئة

والرأي يصف الخبر وليس فيه ضروة الصحة بل قد يكون صوابا او مجانبا له.

هذا ماقالت العرب في المعاني التوصيف، جملة الانتخابات هي محطة انقلابية، اللهم إذا كان بوعسكريعتقد أن هذا التوصيف، هو خبر زائف، ما عدا ذلك ماقلته هو رأي وليس خبرا ولا علاقة له في الزيف بشيء…

صرخ أحد المحامين…صحته لم تعد تحتمل، اسمحي لشقيقته بإشرابه بعض المياه، إنه في حالة مزرية.

ثم ظهر صوت عبد العزيز الصيد جليََا:

ياسيدي هو أصلا الآن في حالة سراح بهذه القضية، وأنا مرافعتي ليست جاهزة…أجلّي الجلسة، صحته لم تعد تحتمل…

تعالت الأصوات في القاعة، وتصادم المحامي مهدي زقروبة وآخرون مع بعض رجال الأمن، وتوافد آخرون على جوهر لأخذه لأنه لم يعد قادرا على المواصلة….

رفعت القاضية الجلسة…وبعدها بساعتين علمنا أنه أجلت إلى وقت لاحق.

خولة بوكريم

رئيسة تحرير ومؤسسة موقع تونس ميديا، أستاذية في الصحافة وعلوم الأخبار صحافية استقصائية، متخصصة في تحقيقات قضايا مكافحة الفساد وحقوق الإنسان مدربة في الصحافة وقضايا الجندر ومكافحة الأخبار الزائفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى